فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانت المثلات قد دخلت من قبلهم في المكذبين، وأناخت صروفها بالظالمين، فتسبب عن عملهم بذلك إنكار قلة مبالاتهم في عدم تحرزهم من مثل مصارعهم، قال: {أفلا تتقون} أي تجعلون لكم وقاية مما ينبغي الخوف منه فتجعلوا وقاية تحول بينكم وبين سخط الله.
ولما كان التقدير: فلم يؤمنوا ولم يتقوا دأب قوم نوح، عطف عليه قوله: {وقال الملأ} أي الأشراف الذين تملأ رؤيتهم الصدور، فكأن ما اقترن بالواو أعظم في التسلية مما خلا منها على تقدير سؤال لدلالة هذا على ما عطف عليه.
ولما كانت القبائل قد تفرغت بتفرق الألسن، قدم قوله: {من قومه} اهتمامًا وتخصيصًا للإبلاغ في التسلية ولأنه لو أخر لكان بعد تمام الصلة وهي طويلة؛ ثم بين الملأ بقوله: {الذين كفروا} أي غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين {وكذبوا بلقاء الآخرة} لتكذيبهم بالبعث.
ولما كان من لازم الشرف الترف، صرح به إشارة إلى أنه- لظن كونه سعادة في الدنيا- قاطع في الغالب عن سعادة الآخرة، لكونه حاملًا على الأشر والبطر والتكبر حتى على المنعم، فقال: {وأترفناهم} أي والحال أنا- بما لنا وعلى ما لنا من العظمة- نعمناهم {في الحياة الدنيا} أي الدانية الدنيئة، بالأموال والأولاد وكثرة السرور، يخاطبون أتباعهم: {ما هذا} أشاروا إليه تحقيرًا له عند المخاطبين {إلا بشر مثلكم} أي في الخلق والحال؛ ثم وصفوه بما يوهم المساواة في كل وصف فقالوا: {يأكل مما تأكلون منه} من طعام الدنيا {ويشرب مما تشربون} أي منه من شرابها فكيف يكون رسولًا دونكم!
ولما كان التقدير: فلئن اتبعتموه إنكم لضالون، عطف عليه: {ولئن أطعتم بشرًا مثلكم} في جميع ما ترون {إنكم إذًا} أي إذا أطعتموه {لخاسرون} أي مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه مما نحن له منكرون؛ ثم بينوا إنكارهم بقولهم: {أيعدكم أنكم إذا متم} ففارقت أرواحكم أجسادكم {وكنتم} أي وكانت أجسادكم {ترابًا} باستيلاء التراب على ما دون عظامها {وعظامًا} مجردة؛ ثم بين الموعود به بعد أن حرك النفوس إليه، وبعث بما قدمه أتم بعث عليه، فقال مبدلًا من {أنكم} الأولى إيضاحًا للمعنى: {أنكم مخرجون} أي من تلك الحالة التي صرتم إليها، فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{هيهات هيهات} بكسر التاء فيهما: يزيد والوقف بالتاء لا غير وهو الصحيح عنه: وروى ابن وردان عنه بالكسر والتنوين فيهما. الباقون بفتح التاء فيهما في الحالين إلا الكسائي فإنه يقف بالهاء {تترًا} بالتنوين: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد والوقف بالألف لا غير. الباقون بالياء في الحالين {وأن هذه} بفتح الهمزة وسكون النون: ابن عامر {وإن} بالكسر والتشديد: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون {وأن} بالفتح والتشديد {زبرًا} بفتح الباء: عباس. الآخرون بضمها.

.الوقوف:

{آخرين} o ج للآية مع الفاء واتصال المعنى {غيره} ط {يتقون} o {الدنيا} لا لأن ما بعده مقول القول {مثلكم} لا لأن ما بعده صفة بشر {تشربون} o {الخاسرون} o {مخرجون} o {لما توعدون} o {بمبعوثين} o لأن الكل مقول الكفار وباب رخصة الضرورة وجواز إتيان الآية مفتوح {بمؤمنين} o ط {بما كذبون} o {نادمين} ج o للآية مع حسن الوصل تصديقًا لقوله: {عما} {غثاء} ط تفخيمًا للكلمة التبعيدية بالابتداء مع فاء التعقيب. {الظالمين} o {آخرين} o ط لأن الجملة ليست بصفة لها لأن العجز عن سبق الأجل لا يختص بهم {يستأخرون} o ط لأن ثم لترتيب الأخبار. {تترا} ط منونًا قرئ أولًا للابتداء بكلما {أحاديث} ج لما ذكر في {غثاء} {لا يؤمنون} o {مبين} o لا لتعلق الجار {عالين} o ج للآية مع الفاء {عابدون} oج لذلك {المهلكين} o {يهتدون} o {ومعين} o {صالحًا} ط {عليم} o ط لمن قرأ {وإن} بالكسر {فاتقون} o {زبرًا} ط {فرحون} o {حين} o {وبنين} o لا لأن {نسارع} مفعول ثان للحسبان {الخيرات} ط {لا يشعرون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)}.
القصة الثانية قصة هود أو صالح عليهما السلام:
اعلم أن هذه القصة هي قصة هود عليه السلام في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين واحتجوا عليه بحكاية الله تعالى قول هود عليه السلام: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء.
وقال بعضهم المراد بهم صالح وثمود، لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة، أما كيفية الدعوى فكما تقدم في قصة نوح عليه السلام.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: حق {أُرْسِلَ} أن يتعدى بإلى كأخواته التي هي وجه وأنفذ وبعث فلم عدى في القرآن بإلى تارة وبفي أخرى كقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} [الرعد: 30] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94] {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا} [المؤمنون: 32] أي في عاد، وفي موضع آخر {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود: 50]؟ الجواب: لم يعد بفي كما عدي بإلى ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعًا للإرسال وعلى هذا المعنى جاء بعث في قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} [الفرقان: 51].
السؤال الثاني: هل يصح ما قاله بعضهم أن قوله: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} غير موصول بالأول، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه، وردوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك قال لهم مخوفًا مما هم عليه {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} هذه الطريقة مخافة العذاب الذي أنذرتكم به؟ الجواب: يجوز أن يكون موصولًا بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان، فدعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان.
ثم اعلم أن الله تعالى حكى صفات أولئك القوم وحكى كلامهم، أما الصفات فثلاث هي شر الصفات: أولها: الكفر بالخالق سبحانه وهو المراد من قوله: {كَفَرُواْ} وثانيها: الكفر بيوم القيامة وهو المراد من قوله: {وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة} وثالثها: الانغماس في حب الدنيا وشهواتها وهو المراد من قوله: {وأترفناهم في الحياة الدنيا} أي نعمناهم فإن قيل ذكر الله مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو {قَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66]، قالوا {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} [هود: 27] وهاهنا مع الواو فأي فرق بينهما؟ قلنا الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال فما قال قومه؟ فقيل له كيت وكيت، وأما الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ومعناه أنه اجتمع في هذه الواقعة هذا الكلام الحق وهذا الكلام الباطل.
وأما شبهات القوم فشيئان: أولهما: قولهم: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}، وقد مر شرح هذه الشبهة في القصة الأولى وقوله: {مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه وهو قوله: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} فجعلوا اتباع الرسول خسرانًا، ولم يجعلوا عبادة الأصنام خسرانًا، أي لئن كنتم أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها منفعة فذلك هو الخسران وثانيهما: أنهم طعنوا في صحة الحشر والنشر، ثم طعنوا في نبوته بسبب إتيانه بذلك.
أما الطعن في صحة الحشر فهو قولهم: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم وهو قولهم {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} ثم أكدوا الشبهة بقولهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ولم يريدوا بقولهم نموت ونحيا الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر.
فلذلك قالوا: {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمَبْعُوثِينَ} ولما فرغوا من الطعن في صحة الحشر بنوا عليه الطعن في نبوته، فقالوا لما أتى بهذا الباطل فقد {افترى عَلَى الله كَذِبًا} ثم لما قرروا الشبهة الطاعنة في نبوته قالوا: {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} لأن القوم كالتبع لهم، واعلم أن الله تعالى ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أما الشبهة الأولى: فقد تقدم بيان ضعفها وأما الثانية: فلأنهم استبعدوا الحشر، ولا يستبعد الحشر لوجهين: الأول: أنه سبحانه لما كان قادرًا على كل الممكنات عالمًا بكل المعلومات وجب أن يكون قادرًا على الحشر والنشر والثاني: وهو أنه لولا الإعادة لكن تسليط القوى على الضعيف في الدنيا ظلمًا.
وهو غير لائق بالحكيم على ما قرره سبحانه في قوله: {إِنَّ الساعة ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15] وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
ثنى إنكم للتوكيد وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف، ومخرجون خبر عن الأول.
وفي قراءة ابن مسعود: {وَكُنتُمْ تُرَابًا وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُون} [المؤمنون: 35]. اهـ.

.قال ابن عطية:

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)}.
قال الطبري رحمه الله: ان هذا القرن هم ثمود و رسولهم صالح.
قال القاضي أبو محمد: وفي جل الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدم إلا أَنهم لم يهلكوا بصيحة، وفي هذا احتمالات كثيرة والله أعلم، {وأترفناهم} معناه نعمناهم وبسطنا لهم الآمال والأرزاق، ومقالة هؤلاء أيضًا تقتضي استبعاد بعثة البشر وهذه طائفة وقوم نوح لم يذكر في هذه الآيات أن المعجزة ظهرت لهم وأَنهم كذبوا بعد وضوحها ولكن مقدر معلوم وإن لم تعين لنا المعجزة والعقاب لا يتعلق بأحد إلا بعد تركه الواجب عليه، ووجوب الاتباع إنما هو بعد قيام الحجة على المرء أو على من هو المقصد، والجمهور كالعرب في معجزة القرآن والأطباء لعيسى، والسحرة لموسى، فبقيام الحجة على هؤلاء قامت على جميع من وراءهم.
قوله: {أيعدكم} استفهام بمعنى التوقيف على جهة الاستبعاد وبمعنى الهزء بهذا الوعد.
و{أنكم} الثانية بدل من الأولى عند سيبويه وفيه معنى تأكيد الأولى وكررت لطول الكلام، وكأن المبرد أبى عبارة البدل لكونه من غير مستقل اذا لم يذكر خبر أن الأولى والخبر عن سيبويه محذوف تقديره أنكم تبعثون إذا متم، وهذا المقدر هو العامل في {إذا} وفي قراءة عبدالله بن مسعود {أيعدكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم مخرجون} بحذف {أنكم} الأولى، ويعنون بالإخراج النشور من القبور. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{ثم أنشأنا من بعدهم قرْنًا آخَرين}.
يعني: عادًا {فأرسلنا فيهم رسولًا منهم} وهو هود، هذا قول الأكثرين؛ وقال أبو سليمان الدمشقي: هم ثمود، والرسول صالح.
وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: {أَيَعِدُكُمْ أنَّكم} قال الزجاج: موضع أنَّكم نصب على معنى: أَيَعِدُكُمْ أنَّكم مخرجون إِذا مِتُّم، فلما طال الكلام أُعيد ذِكْر أن كقوله: {ألم يَعْلَمُوا أنَّه مَنْ يُحادِدِ الله ورسوله فأنَّ له نار جهنَّم} [التوبة: 63]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ}.
أي من بعد هلاك قوم نوح.
{قَرْنًا آخَرِينَ} قيل: هم قوم عاد.
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ} يعني هودًا؛ لأنه ما كانت أمة أنشئت في إثر قوم نوح إلا عاد.
وقيل: هم قوم ثمود {فأرسلنا فيهم رسولًا} يعني صالحًا.